الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»
ثم إنه تعالى أمر ثانيًا بنوع خاص من الصبر وهي المجاهدة التي يحصل بها النفع العام والعز التام، وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا تركتم الجهاد سلط الله تعالى عليكم ذلًا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم» ثم ترقى إلى نوع آخر من ذلك هو أعلى وأغلى وهو المرابطة التي هي الإقامة في ثغر لدفع سوء مترقب ممن وراءه، ثم أمر سبحانه آخر الأمر بالتقوى العامة إذ لولاها لأوشك أن يخالط تلك الأشياء شيء من الرياء والعجب، ورؤية غير الله سبحانه فيفسدها، وبهذا تم المعجون الذي يبرئ العلة وروق الشراب الذي يروي الغلة. ومن هنا عقب ذلك بقوله عز شأنه: {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} وهذا مبني على ما هو المشهور في تفسير الآية، وقد روي في بعض الآثار غير ذلك، فقد أخرج ابن مردويه عن سلمة بن عبد الرحمن قال: أقبل عليَّ أبو هريرة يومًا فقال: أتدري يا ابن أخي فيم أنزلت هذه الآية {الحساب يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ اصبروا} إلخ؟ قلت: لا قال: أما إنه لم يكن في زمان النبي صلى الله عليه وسلم غزو يرابطون فيه ولكنها نزلت في قوم يعمرون المساجد يصلون الصلاة في مواقيتها ثم يذكرون الله تعالى فيها، ففيهم أنزلت أي اصبروا على الصلوات الخمس وصابروا أنفسكم وهواكم ورابطوا في مساجدكم واتقوا الله فيما علمكم لعلكم تفلحون، وأخرج مالك والشافعي وأحمد ومسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ألا أخبركم بما يمحو الله تعالى به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ إسباغ الوضوء على المكاره وكثرة الخطأ إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط فذلكم الرباط فذلكم الرباط».ولعل هذه الرواية عن أبي هريرة أصح من الرواية الأولى مع ما في الحكم فيها بأنه لم يكن في زمان النبي صلى الله عليه وسلم غزو يرابطون فيه من البعد بل لا يكاد يسلم ذلك له؛ ثم إن هذه الرواية وإن كانت صحيحة لا تنافي التفسير المشهور لجواز أن تكون اللام في الرباط فيها للعهد، ويراد به الرباط في سبيل الله تعالى ويكون قوله عليه السلام: «فذلكم الرباط» من قبيل زيد أسد، والمراد تشبيه ذلك بالرباط على وجه المبالغة. وأخرج عبد بن حميد عن زيد بن أسلم أن المراد اصبروا على الجهاد وصابروا عدوكم ورابطوا على دينكم، وعن الحسن أنه قال: اصبروا على المصيبة وصابروا على الصلوات ورابطوا في لجهاد في سبيل الله تعالى، وعن قتادة أنه قال: اصبروا على طاعة الله تعالى وصابروا أهل الضلال ورابطوا في سبيل الله، وهو قريب من الأول، والأول أولى.هذا ومن باب الإشارة: {إِنَّ فِي خَلْقِ السموات والأرض} أي العالم العلوي والعالم السفلي {واختلاف اليل والنهار} الظلمة والنور {لايات لاِوْلِى الالباب} [آل عمران: 190] وهم الناظرون إلى الخلق بعين الحق {الذين يَذْكُرُونَ الله قياما} في مقام الروح بالمشاهدة و{قعودًا} في محل القلب بالمكاشفة {وَقُعُودًا وعلى جُنُوبِهِمْ} أي تقلباتهم في مكامن النفس بالمجاهدة، وقال بعضهم: {الذين يذكرون الله قيامًا} أي قائمين باتباع أوامره و{قعودًا} أي قاعدين عن زواجره ونواهيه {وعلى جنوبهم} أي ومجتنبين مطالعات المخالفات بحال {وَيَتَفَكَّرُونَ} بألبابهم الخالصة عن شوائب الوهم {فِى خَلْقِ السموات والأرض} وذلك التفكر على معنيين، الأول: طلب غيبة القلوب في الغيوب التي هي كنوز أنوار الصفات لإدراك أنوار القدرة التي تبلغ الشاهد إلى المشهود، والثاني: جولان القلوب بنعت التفكر في إبداع الملك طلبًا لمشاهدة الملك في الملك فإذا شاهدوا قالوا {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا باطلا} بل هو مرايا لأسمائك ومظاهر لصفاتك، ويفصح بالمقصود قول لبيد: {سبحانك} أي تنزيهًا لك من أن يكون في الوجود سواك {فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران: 191] وهي نار الاحتجاب بالأكوان عن رؤية المكون {رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النار} وتحجبه عن الرؤية {فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} وأذللته بالبعد عنك {وَمَا للظالمين} الذين أشركوا ما لا وجود له في العير ولا النفير {مِنْ أَنصَارٍ} [آل عمران: 192] لاستيلاء التجلي القهرى عليهم {رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا} بأسماع قلوبنا {مُنَادِيًا} من أسرارنا التي هي شاطئ وادي الروح الأيمن {يُنَادِى للإيمان} العياني {وَإِذَا أُنزِلَتْ الرشد فَئَامَنَّا} أي شاهدوا ربكم فشاهدنا، أو {إننا سمعنا} في المقام الأول {مناديًا ينادي للإيمان} والمراد به هو الله تعالى حين خاطب الأرواح في عالم الذر بقوله سبحانه: {أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ} [الأعراف: 172] فإن ذلك دعاء لهم إلى الإيمان {فآمنا} يعنون قولهم: {بلى} حين شاهدوه هناك سبحانه: {رَبَّنَا فاغفر لَنَا ذُنُوبَنَا} أي ذنوب صفاتنا بصفاتك {وَكَفّرْ عَنَّا} سيئات أفعالنا برؤية أفعالك {وَتَوَفَّنَا} عن ذواتنا بالموت الاختياري {مَعَ الابرار} [آل عمران: 193] وهم القائمون على حد التفريد والتوحيد {رَبَّنَا وَءاتِنَا مَا وَعَدتَّنَا على} ألسنة {رُسُلِكَ} بقولك: {لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26] {وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ القيامة} بأن تحجبنا بنعمتك عنك {إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الميعاد} [آل عمران: 194] {فاستجاب لَهُمْ رَبُّهُمْ} لكمال رحمته {أَنّى لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مّنْكُمْ مّن ذَكَرٍ} القلب وعمله مثل الإخلاص واليقين {أَوْ أنثى} النفس وعملها إذا تركت المجاهدات والطاعات القالبية {بَعْضُكُم مّن بَعْضٍ} إذ يجمعكم أصل واحد وهو الروح الإنسانية {فالذين هاجروا} من غير الله تعالى إلى الله عز وجل: {وَأُخْرِجُواْ مِن ديارهم} وهي مألوفات أنفسهم {وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِى} بما قاسوا من المنكرين، وعن بعض العارفين أن القوم إذا لم يذوقوا مرارة إيذاء المنكرين لم يفوزوا بحلاوة كأس القرب من الله تعالى، ولهذا قال الجنيد قدس سره: جزى الله تعالى إخواننا عنا خيرًا ردونا بجفائهم إلى الله تعالى: {وَقَاتِلُواْ} أنفسهم فيّ وهي أعدى أعدائهم {وَقُتّلُواْ} بسيف الفناء {لاكَفّرَنَّ عَنْهُمْ سيئاتهم} الصغائر والكبائر من بقايا صفاتهم وذواتهم {وَلاَدْخِلَنَّهُمْ جنات} ثلاث وهي جنة الأفعال، وجنة الصفات، وجنة الذات {تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانهار} أنهار العلوم والتجليات {ثَوَابًا مّن عِندِ الله} الجامع لجميع الصفات {والله عِندَهُ حُسْنُ الثواب} [آل عمران: 195] فلا يكون بيد غيره ثواب أصلًا {لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الذين كَفَرُواْ} أي حجبوا عن التوحيد {فِى البلاد} [آل عمران: 196] في المقامات الدنيوية والأحوال {متاع قَلِيلٌ} لسرعة زواله وعدم نفعه {ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ} الحرمان {وَبِئْسَ المهاد} [آل عمران: 197] الذي اختاروه بحسب استعدادهم {لَكِنِ الذين اتقوا رَبَّهُمْ} بأن تجردوا كمال التجرد {لَهُمْ جنات} ثلاث عوض ذلك {نُزُلاٍ مّنْ عِندِ الله} معدًا لهم {وَمَا عِندَ الله} من نِعَم المشاهدة ولطائف القربة وحلاوة الوصلة {خَيْرٌ لّلابْرَارِ} [آل عمران: 198] {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الكتاب لَمَن يُؤْمِنُ بالله} ويحقق التوحيد الذاتي {وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ} من علم التوحيد والاستقامة {وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ} من علم المبدأ والمعاد ونيل الدرجات {خاشعين للَّهِ} للتجلي الذاتي وما تجلى الله تعالى لشيء إلا خضع له {لاَ يَشْتَرُونَ بئايات الله} تعالى وهي تجليات صفاته {ثَمَنًا قَلِيلًا أُوْلئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ} وهي تلك الجنات {إِنَّ الله سَرِيعُ الحساب} [آل عمران: 199] فيوصل إليهم أجرهم بلا إبطاء {الحساب يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ اصبروا} عن المعاصي {وَصَابِرُواْ} على الطاعات {وَرَابِطُواْ} الأرواح بالمشاهدة {واتقوا الله} من مشاهدة الأغيار {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 200] بالتجرد عن همومكم وخطراتكم، أو {اصبروا} في مقام النفس بالمجاهدة {وصابروا} في مقام القلب مع التجليات {ورابطوا} في مقام الروح ذواتكم حتى لا تعتريكم فترة أو غفلة واتقوا الله عن المخالفة والإعراض والجفاء {لعلكم} تفوزون بالفلاح الحقيقي، نسأل الله تعالى أن يجعل لنا الحظ الأوفى من امتثال هذه الأوامر وما يترتب عليها نه وكرمه. وهذه الآيات العشر كان يقرؤها صلى الله عليه وسلم كل ليلة كما أخرج ذلك ابن السني، وأبو نعيم، وابن عساكر عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه. وأخرج الدارمي عن عثمان قال: من قرأ آخر آل عمران في ليلة كتب الله تعالى له قيام ليلة، وأخرج الطبراني من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما مرفوعًا «من قرأ السورة التي يذكر فيها آل عمران يوم الجمعة صلى الله تعالى عليه وملائكته حتى تجب الشمس»، وخبر من قرأ سورة آل عمران أعطي بكل آية أمانًا على جسر جهنم موضوع مختلق على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد عابوا على من أورده من المفسرين، نسأل الله تعالى أن يعصمنا عن الزلل ويحفظنا من الخطأ والخطل إنه جواد كريم رؤوف رحيم، وليكن هذا خاتمة ما أمليته من تفسير الفاتحة والزهراوين، وأنا أرغب إلى الله تعالى بالإخلاص أن يوصلني إلى تفسير المعوذتين، وهو الجلد الأول من روح المعاني، ويتلوه إن شاء الله تعالى الجلد الثاني وكان الفراغ منه في غرة محرم الحرام سنة 1254 ألف ومائتين وأربعة وخمسين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين آمين.
ومنها أن في آل عمران ذكر قصة أحد مستوفاة وفي هذه السورة ذكر ذيلها وهو قوله تعالى: {فما لكم في المنافقين فئتين} فإنه نزل فيما يتعلق بتلك الغزوة على ما ستسمعه إن شاء الله تعالى مرويا عن البخاري ومسلم وغيرهما ومنها أن في آل عمران ذكر الغزوة التي بعد أحد كما أشرنا إليه في قوله تعالى: {الذين استجابوا لله والرسول} إلخ وأشير إليها هاهنا بقوله سبحانه: {ولا تهنوا في ابتغاء القوم} الآية وبهذين الوجهين يعرف أن تأخير النساء عن آل عمران أنسب من تقديمها عليها كما في مصحف ابن مسعود لأن المذكور هنا ذيل لما ذكر هناك وتابع فكان الأنسب فيه التأخير ومن أمعن نظره وجد كثيرا مما ذكر في هذه السورة مفصلا لما ذكر فيما قبلها فحينئذ يظهر مزيد الارتباط وغاية الاحتباك.بسم الله الرحمن الرحيم
|